جوستين… المركيز دو ساد




أتسائل اليوم، هل ما يمر علينا كل يوم من مآس ومصائب تعدّ حقاً مصائب؟ أم نحن نهول الأمور؟إنك عندما تعرف مصيبة غيرك تهون عندك مصيبتك.. ولعل قرائتي لـ(جوستين) للمركيز دو ساد جعلتني أراجع الأمر أكثر، فليس لخيالك أن يصل إلى حجم المعاناة والمصائب التي في (جوستين) دون قرائتها.ولأول مرة أقرأ جرأة وصراحة كهذه، وليس ابتذال، وتفاصيل إيروتيكية مثيرة.إنها (جوستين) ودعوني أخبركم من هو المركيز دو ساد؛ ألم تسمع من قبل كلمة (ساديّة) وماذا تعرف عنها؟ السادية تصنف كاضطراب نفسي وهو التلذذ بتعذيب الطرف الآخر في العملية الجنسية، فتثيره معاناة الشريك كل الإثارة. وسميت سادية نسبة إلى المركيز دو ساد. وهذا الشخص من عائلة فرنسية أرستقراطية عريقة، تعلم في طفولته على يد عمه آبي دي ساد, الذي كان مثقفا ماجنا، وكان دو ساد ماجناً أيضاً وخليعاً فاجراً، فزوجوه أهله من رينيه دي مينتري وهي ابنة إحدى العوائل البرجوازية الغنية التي أعجبت بالماركيز الشاب والوسيم فوافقت عليه في الحال. وسكن الزوجان في أحد القصور بالقرب من باريس, إلا أن الزواج لم يغير شيئا من طباع الماركيز فسرعان ما بدأت أخبار فضائحه الجنسية تنتشر وتصبح على كل لسان. كثرت جرائم الماركيز ودخل السجن أكثر من مرة بسبب فجوره وتعذيبه للنساء والرجال أيضاً. كتب عدة روايات منها: (120 يوما في السادوم أو مدرسة الفجور) وقد حولت إلى فلم و (جوستين) و (الفلسفة في المخدع) وغيرها من روايات ومسرحيات. يقال رغم ممارسته للعنف الجسدي واحتواء أغلب قصصه ورواياته على القتل وإراقة الدماء إلا أن الرجل لم يعرف عنه بأنه قتل إنسانا سوى ربما في ساحة المعركة. وكتب هو عن نفسه قائلا “لقد تخيلت جميع أنواع المعاصي, لكني بالتأكيد لم اقترفها كلها ولن اقترفها”.
جوستين:تبدأ الرواية بإهداء وتصدير يبين فيه فلسفته، ويعتذر بآخره عما وضعه من فلسفات زائفة بأفمام شخوصه وما جلبه من مواقف مؤلمة، ثم تبدأ الرواية مكونة من خمس وعشرين فصلاً.جوستين، فتاة من عائلة مرموقة وابنة مصرفي شهير أفلس ومات وترك ابنتان هما جوستين وجوليت، تحافظ جوستين على الفضيلة ولا تريد الانخراط في عوالم الرذيلة، ولكنها ورغماً عنها تقع فيه قهراً، بينما أختها ترخي لنفسها العنان لتغرق في وحل البغاء، وتكون ثروتها ومعارفها لتبني بها نفسها، فتصبح بغي المشاهير والسياسيين، وتوقع في حبها الرجل الثاني في الدولة لتكمل إشباع نفسها بالمال والسلطة.أما جوستين، فقد خرجت من بيت والدها بعد وفاته وأخذها حقها اليسير من المال، لتبحث عن حياتها وعن العمل، فوقعت في يد صاحبة دير، لتغويها بخدمة رجل غني، ولكن ليس للخدمة،لأمر آخر. فتخرج وتعود للمرأة، توبخها وتعيدها له، وتهرب مرة أخرى، ثم تعمل لمدة ثلاث سنوات عند تاجر بخيل مقتر، ليلفق عليها سرقة عقد ماس، فتدخل السجن للمرة الأولى، وتعرف أمرأة تخطط للهروب فتحرق السجن لتتمكن من الهروب وتهرب معها جوستين، وتقع في يد عصابة تديرها المرأة التي عرفتها بالسجن، فيحاولون وترفض، وتقترح المرأة أن تشاركهم بالجرائم فتبقى، ويمر شخص، فيعتقلونه ويسرقون ماله، بعدها تستطيع جوستين فك أسر الاسير وإعادة المال له، فتهرب معه، وفي طريقهم في الغابة يدفعها ويغتصبها، وتذهب الفضيلة!تسوقها الأقدار للعمل عند رجل شاذ، هو وخادمه. تحاول تأنيبه بشكل لطيف على إفراطه، لتجده يقول (لو عرفت ما نناله من بهجة مطلقة بالوهم اللذيذ ألا نعود رجالاً، بل نساء!.. كم هو لذيذ ومبهج أن أكون الجائر بين كل من يرغبك! ياله من هذيان! يا لها من بهجة! أن تكوني باليوم نفسه عشيقة حمّال، مركيز، خادم، دوق! أن تلاطفي، تهددي، ترهبي بالعبوس والغيرة!..)يحاول إغرائها بالمال بعد خمس سنوات لتقتل عمّته الغنية التي تسكن معه، فيكتشف خيانتها، وتتخلص منه بعد تعذيبه لها.وقعت بعد ذلك بين يدي طبيب وعملت معه ولكنها اكتشفت سره، وهو أنه حبس ابنته لترويعها ليقتلها بعد ذلك، كل هذا لإجراء بحوثه الطبيه، تكتشف حبسه لابنته وتحاول مساعدتها ولكنه يمسكها ويعذبها ويسمها وسم المجرمين بالسيخ الحار على ظهر كتفيها، ويطلقها.يعود إليها الأمل بعد أن رأت كنيسة بعيدة في منطقة نائية، أتجهت إليها وكلها أمل بالخلاص من العذاب، وتصلها ليلاً وقد أغلقت الكنيسة ولكنها تصر على الخادم أن يساعدها فيأتيها الأب، ويستمع إليها، من ثم يطمئنها ويطلب منها أن تتبعه كي ترتاح، ولكنه ما إن يبتعد قليلاً حتى يندهها بـ(العاهرة) تتفاجأ وتحاول الفهم ولكنه يسحبها ويدخلها مبنى محصن آمن، لتجد الآباء الأربعة الذين في الكنيسة، ومن هنا تبدأ معاناة أخرى، نفسية وبدنية. ولتجد مثيلاتها من الفتيات، وكل هذا الدير فسق وفجور وتعذيب. وهذه الكنيسة تنتمي لطائفة الشامان وقد نشأ منذ مايزيد عن مائة عام على الاساس نفسه!! تهرب بطريقتها لتقع بين يدي الرجل الذي يستمتع بمرأى الدم يسيل من زوجته، وتكون مساعدة لزوجته، وتحاول الابلاغ لتجدها مسجونة معذبة، وتهرب بعدها لتوقعها الاقدار في يد الذي اغتصبها أول مرة وقد اصبح تاجراً للرقيق أو بمعنى آخر للفتيات الأبكار، وتخرج منه لتنقذ رجلاً مصاباً وتصبح سجينته ويعذبها…وهكذا فهي من حال لأسوأ، حتى تقع في السجن مرة أخرى لتخرج لتنفيذ القتل في مدينة اخرى ولكنها تنقذها اختها جوليت بعد أن أصبحت عشيقة رجل السلطة الثاني.يتخلل الرواية كثير من النقاشات بين الشخوص، وقد تطول النقاشات كثيراً، ومن هذه النقاشات نعرف كيف يفكر أو ماهي فلسفة الرجل السادي، فلماذا تعذب المرأة؟ نجد أن لكل شخصية فلسفة يركز عليها، ولا أود أن أطيل أكثر وهذه بعض الاقتباسات:* (ما دامت الأنانية أول قوانين الطبيعة فعلينا أن نغترف منها بملذّات العواطف مع امرأة، لايجب أن تعني الرجل غير بهجته. وخارجها لا علاقة بينهما على الإطلاق، فالمرأة شيء مجرد، جٌبل على خدمته)* (إن عواطف الشهوة من الخيال غالباً، خيال موظّف تحت إمرة استحواذ. استحواذ هو نوع من الجمال الذي يثيره أكثر، أو يتلقى من مبعثه أعظم إحساس مستطاع. ولا إحساس بمبعث أسرع من المعاناة؛ فهي صورة إيجابية لا تخدع مثل صور اللذة، تلك التي تثيرها النساء أبداً، لكنهن يشعرن بها في مشقة)* (أهم مافي الملذات الحسية بلوغ ذروة أعلى من التمتع فالتمتع يزداد قياساً مع الكثافة أو الحس الذي يتلقاه الخيال؛ والحس أو الصورة الأشد كثافة من ناتج الألم)* (اسألي الحَمَل، فلن يفهم لماذا يفترسه الذئب. لكن اسألي الذئب مانفع الحَمَل. سيرد (ليغذيني). الذئاب تلتهم الحملان؛ والضعفاء ضحايا الأقوياء – من الطبيعة)* (الاشمئزاز ليس من الطبيعة إنه من طلب العادة ألا نحس به نفسه مع أطعمة معينة؟ نمقتها لمجرد طلب العادة في تناولها. ألا نجد فيها نفعاً لأننا لم نرب أذواقنا عليها.. وهذا الاشمئزاز اللحظي أكثر من ماكر، دلال للطبيعة أكثر منه تحذيرا مما يثير هياجها)* (لو مُدّت آثار هذه القوة إلى امرأة فلاحظي ما ستؤول إليه: مخلوقة وضيعة، أدنى من الرجل من أي وجهة. فهي أقل براءة، أقل حكمة، تقاوم كل ما يسعد الرجل، كل مايسرّه: كائن مريض نصف عمره. نكدة مناكفة متعجرفة، وموهوبة معصومة في التذمّر الدائم. طاغية لو عُهد إليها بأي قوة؛ دنيئة متزلفة لو رضخت تحت هيمنة. زائفة دوما، شريرة خطرة)* (دعي من يطوّق عنقي بالمنن أن يكثر قدر هواه، لكن لاتدعيه يطلب شيئاً مقابله، حيث إنه قد تمتع بعواطف الإحسان)* (إن رؤية التعساء تثيرني وتسليني. هناك مبادىء لا احيد عنها. فالفقر من الطبيعة , ومن نية الطبيعة الا تغير الحضارة هذا المبدا الاولي . ولو قمنا براحة كل محتاج فسندمر نظم الطبيعة ونطيح بالتوازن , أسّ انساقها الفائقة , فليعلم كل متراخ كسول , ليعلم كل فقير أن المساواة اخطر شيء على المجتمع)
وفي النقاشات الكثير من الوقفات التي ينبغي للقارئ إدراكها، بل أعتبر أجمل مافي الرواية هذه النقاشات المطولة، ولكن لاتصدقوها جوستين، رواية تقرأ وتقرأ وتقرأ، كي نفهم ونعرف فلسفة الرجل السادي، الذي يعشق مرأى الألم على وجه الضحية.
وعلى الغلاف الأخير:هذه واحدة من أكبر الروايات الممنوعة على مدار الأزمنة. يعتبر مؤلفها، المركيز دو ساد، دوناتيه ألفونس فرانسوا)، من أكثر الكتاب الملعونين في التاريخ، حيث يوسم بأنه منحرف، إباحي، منتهك للفضيلة، ومجنون. وإن نشر رواية “جوستين” في طبعة كاملة متاحة للجميع لهو خطوة أخرى نحو الحرية الفكرية للقارئ. كان ساد فيلسوفاً، غريباً نوعاً، فاحشاً نوعاً. لكن يستحق أن نسمعه-وحانت فرصته أخيراً.إن نشر “جوستين” في هذا الوقت لهو حدث ثقافي هام.
الرواية: جوستين (Justine)المؤلف: المركيز دو سادالترجمة: محمد عيد إبراهيمالطبعة: الأولى 2006 . إشراقات للنشر والتوزيعالصفحات: 199شراء الرواية: النيل والفرات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق